دمشق 'القدس العربي': يُعتبر الفنان التشكيلي نجا مهداوي من أبرز الفنانين العرب المعاصرين, وقد سبق للجمهور السوري أن أطل جزئياً على تجربته من خلال المعرض الجماعي لافتتاح صالة غاليري رافيا في نيسان / إبريل من عام 2009, لكنه الآن يعود إلى دمشق بمعرض شخصي مستقل, عاد ليفاجئنا بلوحات لم نعهدها سابقا في الحروفيات العربية, أو ما يعرف بفن الخط العربي ومدارسه التقليدية.
ففي هذا المعرض الذي افتتح يوم الاثنين 28/2/ 2011م في غاليري رافيا والذي يستمر حتى 26 آذار/ مارس الحالي, كنا في غابة من الحروف والكلمات وأحيانا أجزاء مبتسرة لحروف وكلمات لم تكتمل, ولم نكن معنيين أصلا باكتمالها, طالما أننا غير معنيين أساساً بقراءة دلالاتها اللفظية كما تعودنا في اللوحات الخطية التي ألفناها سابقا, فالمهداوي ينجح في تحطيم القيمة الدلالية للكلمة أو العبارة لصالح قيم جمالية جديدة أكثر معاصرة وأكثر دفأً روحياً, انطلاقا من فهم مغاير لعلاقة الرمز بالمعنى , حيث تصبح الحروف بل أجزاء الحروف إشارات رمزية وتيمات جمالية بنفس الوقت, يعيد المهداوي تشكيلها في نسيج فني صوفي أعمق وأكثر دلالة.
هذه الصوفية التي قادته الآن لزيارة مقام ابن عربي في دمشق, بعدما ألف كتابه 'سيد العشق' عن رحلة محي الدين ابن عربي في طريقه للقدس ومكة ووقوفه في تونس , نلك الرحلة التي شكلت أحد مصادر ثقافته الأولى التي ساهمت في توجهه نحو الخط العربي كفن وذائقة بصرية, ضمن البيئة الثقافية التي احتضنت طفولته في تونس, لكن وعيه لعلاقة الخط بالفن, أو لوظيفة هذا الخط فنيا بدأت من معرض جماعي في روما, شارك فيه وهو طالبا في أكاديمية 'سانتا أندريا' ليكتشف من خلال زملائه في المعرض الخصوصية الكورية واليابانية في الفن, إلا أن سؤال الخصوصية لديه لم يدفعه للإرتكاس باتجاهات الماضي المنغلقة على زمنها, بقدر ما دفعه لتوظيف المخزون الفني في ثقافتنا والإرث المبني على الزخرفة الخطية باتجاه إعادة توليف معاصرة للّوحة الخطية التي تشكل انفتاحا على البعد الإنساني وثقافات الشعوب.
لذلك تعددت أساليب اشتغاله ما بين الغرافيك والطباعة الحرارية على الورق إلى الرسم على الجلد وليس انتهاءً بالرسم على الزجاج أو المعدن, من تصميم بعض المشاريع الفنية في إطار المسرح الراقص, إلى رسوماته التي زينت هوامش الترجمة الفرنسية من كتاب 'ألف ليلة وليلة' وصولا إلى كتابه 'مراتب العشق' مع الكاتبة والروائية رجاء بن عالم من السعودية عن 'ألف ليلة وليلة' أيضا, كما صمم أعمالاً فنية هامة في مطاريْ جدة والرياض بالمملكة العربية السعودية، وكذلك أعماله على طائرات شركة طيران الخليج Gulf Air, إيمانا بأنها رسالة حضارية موجهة للآخر.
وقد أثار فضولي في هذا المعرض تلك التوظيفات اللونية الصغيرة في مساحة من التخطيطات الهندسية التي رسمت بالأبيض والأسود, مساحات, ألوان لم تكن وظيفتها كسر الإيقاع اللوني فقط, بل الذهاب بنا إلى مساحات حسية أبعد في آلية التلقي الجمالي. رغم وجود لوحات أخرى ملونة, خاصة في مجموعة حجاز 2010 وكذلك الأمر في لوحة 'ميلتا' 2005 المنفذة بالحبر الهندي والإكليريك على القماش, وعموما تحيلنا تلك الأعمال أكثر إلى البنية الهندسية لّلوحة, في علاقة هذه البنية مع التجريد الهندسي في الثقافة العربية, وعلاقة الخط العربي تحديدا بالتجريد الصوفي في هذه الثقافة, لينتج مزيجا رائعا من رمزية خطية في فضاء تجريدي, فلا الحرف ساعٍ إلى المعنى ولا ذاك بادٍ في الرسمِ, مما يؤكد أسبقية هذه الاتجاهات التجريدية, على التجريد الغربي المعاصر.
وإن سبق للفنان والناقد الجزائري محمد بو كرش أن اعتبر مهداوي مؤسس المدرسة التكعيبية, فإنما يشير ذلك إلى البعد المعاصر في تقنية اشتغال المهداوي على فن الخط, تقنية تبتعد عن الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة في الخط الكوفي, لصالح الانحناءات اللدنة والميول المنسابة في خطوط الثلث والديواني, لتخلق ذلك التضاد والتعشق الحركي بآن مع البناء الهندسي والخطوط المستقيمة التي تنهض في سطح اللوحة لاغيةً الفراغ من مساحة الرؤية, بعكس ما اعتدناه سابقا في لوحات الخط التي كانت تقودنا عنوة للبحث عن معنى العبارة أو الحكمة التي سُطرت في مساحة يُفضل أن تبقى فارغة كي لا تشاغل الناظر إليها خارج حدود المعنى.
وفي هذا القطع مع الحروفية التقليدية وآليات تلقيها فنيا, يكمن التجديد الإبداعي للفنان نجا مهداوي, الذي استعاض عن شاعرية القول بشاعرية الرمز التشكيلي, وعن إيقاع الدلالة بالإيقاع الحسي والتجريدي الكامن في حركة الحروف والكلمات.
والمهداوي من مواليد في 1937تونس، تخرج من أكاديمية في روما، ومن معهد متحف اللوفر في باريس في عام 1967. كما تابع تدريبه الأكاديمي في المدينة الدولية للفنون Cite Internationale des Arts في باريس، بموجب منحة زمالة من الحكومة التونسية. لكنه لأصر أن يعود إلى هويته الجغرافية والثقافية المحلية, في محاولة لإعادة تقديمها بإهاب حداثي ومعاصر, يتيح لها إمكانيات التفاعل والتطور في فضاءآت ثقافية أكثر غنى وشمولية.
|