عين على الفن التشكيلى
  المدرسة الوحشية
 




المدرسة الوحشية
 

فى عام 1905 وفى جناح خاص فى معرض الخريف ، كانت مجموعة من اللوحات الزيتية ، لعدد من الفنانين الثائرين الذين تجمعوا حول الفنان الناشىء اللامع هنرى ماتيس ، قد أحدثت ضجة بين صفوف المتفرجين الذين أدهشهم هذا الخلروج السافر على التقاليد المتبعة فى الفن و التلوين ، وكان الحانقون و المدهوشون أوفر عددا من المعجبين و المؤيدين ، ومع ذلك فلقد كان الفضول يدفع المزيد من الناس لرؤية هذه الاعمال الجريئة المفجعة ، ولقد عبلر الصحفى كاميل موكلير عن خيبة الجمهور أمام الصخب اللونى الذى ينطلق من أعمال هاؤلاء العارضين فى مقالة لاذعة نشرها فى جريدة الصباح ولقد أورد فيها عبارة سبق أن قالها روسكين عام 1877 بمناسبة معرض ويسلر فى لندن ( لقد قذف هاؤلاء الجمهور بسطل من الالوان ) .
ومن المؤكد أن النقاد لم يرو من خلال هذه الأعمال الا مظاهرة لونية أو عبثا ، فقد كتب مارسيل نيكول فى جريدة روان ( ان اللوحات أشبه بألعاب بربرية وساذجة لطفل يعبث بعلبة ألوانه ، جاءت هدية يوم عيد ميلاده الأول ) .
و الواقع أنه لم يكن لاى داخل الى هذه القاعة بد من ان يصفعه البتناقض بين التمثالين الواقعين اللذين يذكران بالاسلوب الفلورنسى الرصين ، وهما تمثال لجذع طفل وتمثال نصفى لامرأة ، بين مجموعة الألوان التى تكاد تصرخ مدوية من خلال لوحات هؤلاء العارضين ، وهم كاموان و ديران و فان دوغان و دوفى و فريز و مانغان و مارينو و ماركيه و ماتيس و بوى و فالتات .
ولقد عبر لويس فوسيل الناقد الذائع الصيت عن هذه المفارقة الكبيرة بين الفن التقليدى و الفن المعروض ، فى نقده المشهور فى مجلة جيل بلاس عام 1906 وفيه يقول( ان هذه التماثيل هى أشبه بتمثال دونا تللو بين الوحوش) ولعل فوسيل كان اقنع الكاتب و الناقد بقدرته على ابتكار التسميات المثيرة للاتجاهات الفنية المبتكرة ، فسرت تسمية الوحوش على جميع العارضين ، وأصبحت هذه التسمية السمة الجديدة لفن جديد حاول بعض النقاد فيما بعد استعمالها وتفنيدمضمونها ، وقد دخلت فى تاريخ الفن فى خفلة من تمحيص رجال اللغة أو من تدقبق المؤرخين الباحثين القادرين على تحديد أصولها الحقيقية .
ولكن ماهى هذه المدرسة التى أطلق عليها خطأ هذا الاسم ؟ .
عندما أطلق ماتيس عبارته الشهيرة : ( يجب أن ننسى ماتمثله اللوحة عند النظر اليها ) أوجد بذلك مبدأ سار عليه الفن الحديث بجميع اتجاهاته .
ولكن أول من فهم هذه العبارة فهما عميقا ، كان ماتيس نفسه وأصدقاؤه الذين زاروا معرض فان غوغ التذكارى عام 1901 ، فأثار اعجابهم بألوانه البعارمة ، وكان منهم بالتالى الخطوة الأولى لحركة الفن الحديث المنطلقة ، وأصبح هؤلاء مع أصدقائهم جماعة ( الجسر ) مركز الخطورة بالنسبة للفن ، حيث تراجع الموضوع نهائيا أمام الذات التعبير عن نفسها بمنتهى الحرية .
وهكذا أعلنت درسد كما أعلنت باريس اعتناقها ( للضوئية ) وتنكرها للمدرسية ، والتزمت الحرية الكاملة فى الابداع التشكيلى . فحل الابداع محل العمل الفنى ، وأصبح الفن مرتبطا بالوضع النفسى بدلا من ارتباطه بالرؤية المجردة . وعدا عن التقسيم اللونى الذى قام به الانطباعيون ، وعدا عن فرحة الحياة التى هتفوا لها فى لوحاتهم ، فلقد سعى الوحشيون الى بناء الاشياء بكثير من المرونة ، وما كان قصدهم أن يصلحوا الطبيعة ، بل لقد أرادوا بناءها بعفوية و اعتباطية ، ولهذا فلقد نفروا من القواعد ، وحافظوا دائما على حسيتهم الغنائية وعلى تجنب التهافت نحو العقل . وكما يقول دوفى : ( ليس الفن فكرة ، انه عمل . ويبقى حل معضلات الفنان ذاته ، كامن فى علبة الألوان ) .
وهكذا كان الوحشيون من لاتين و جرمن و اسكاندنافيين وسلاف ، يصورون المشاعر الغريزية التى يأخذونها عن الحياة ، ويترجمون نشوتهم الحياتية بالضياء و بصفاء اللون و بقوة التضاد وعفوية التكوين . ولقد استعاروا من الانطباعيين الضياء المتهدج و الجو المتلون ، و اكتشفوا زيادة الخط الايقاعى ، و الحدود التى تكحل الموضوع ، واللون المخفف الذى كان يعبر عن الشكل و النور بوقت واحد . أصبحت ملوناتهم تتضمن مدرجا جديدا من الالوان الصافية ، كالأخضرؤ و البرتقالى و الأزرق و الأحمر و البنفسجى .
وقد برز التناغم بين المتضادات الى أقصاه , كما بدأ الأهتمام بالايقاع و بتوفيق الألوان سابقا للاهتمام بالمنظور و النموذج نفسه ، وكان هذا تحديا خطيرا يحتاج الى كثير من المهارة وشدة الحدس .
وهكذا لم يعد الوحشيون يرتبطون اطلاقا بالأشكال و الألوان الواقعية . لقد غيروا الاشياء وفقا لحاجة التوقيع اللحنى للصورة ، فلم يترددوا قط فى أن يجعلوا لون الحصان أحمر أو أرجوانيا ، اذا كانت ضرورات التأليف اللونى تتطلب ذلك .
ونستطيع أن نقول أن التصوير الوحشى ، فن شكلى لا يهتم كثيرا بالمضمون ، فهو براق وتزيينى و رمزى ، لا يجعل الامور الاخلاقية أو الفلسفية أو الاجتماعية أساسا له ، على العكس بعض الاتجاهات الحديثة الأخرى و التى تتضمن بعدا ذهنيا هاما .
ويبقى مرجع ذلك عند الوحشيين الى عفويتهم التى تدفعهم الى التعبير عن انطباعاتهم اللونية ، ولقد قال ماتيس مرة : ( نحن لا نستطيع أن نكون أسياد ابداعنا ، ان الابداع هو الذى يوجهنا ) .


 

 
  عدد زوار هذا الموقع 128342 visiteurs:شكرا  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement